Saturday, May 14, 2011

الكتابة الهيروغليفية

الكتابة الهيروغليفية

الكتابة هي الوسيلة الثابتة للتعبير عن الفكرة، وعندما فكر المصري في أن يسجل أحداثه كانت الطبيعة من حوله مصدر الإلهام بالنسبة له بما فيها من ظواهر طبيعية وكائنات حية، فهداه تفكيره إلى أن ينقل بعضاً مما في الطبيعة والبيئة المحيطة به ليعبر بالصورة عن المعاني التي يريد التعبير عنها، وجاءت العلامات ذات استخدام تصويري أي معبرة عن صورتها، فإذا ما رسم إنساناً فإنه يقصد التعبير عن الإنسان، وكذلك الحال بالنسبة لأعضاء جسم الإنسان، أو الحيوان وأعضائه، وكذلك الطيور والزواحف والحشرات، ثم هناك الأشجار والنباتات والجبال والبحار والأنهار.

والمتوقع أن بعض أصحاب المبادرات والذين يجود بهم الزمان في كل مكان قد التقوا ووضعوا تصوراً قابلاً للنقاش والتطور، ولابد أنهم اتفقوا على استخدام علامات معينة لتعبر عن مضمون معين، فالبومة للتعبير عن البومة نفسها، وموجة المياه للتعبير عن المياه بوجه عام سواء من حيث المصدر أو الاستخدام، واختاروا شكلا هندسيًّا معيناً للتعبير عن البيت وشكلاً آخر دائريًّا بشارعين متقاطعين للتعبير عن المدينة، والعلامة التي تمثل القلب والقصبة الهوائية للتعبير عنهما كأجزاء من جسم الإنسان. وفي كل هذه العلامات التصويرية كان لابد من استخدام شرطة رأسية أسفل العلامة في معظم الأحيان لتؤكد أن العلامة تعبر عن نفسها وتشير إلى مضمونها، أي تصور نفسها دون أن تكون لها قيمة صوتية. ولابد أن دائرة الاتفاق على الاستخدام التصويري للعلامة قد بدأت تتسع لتشمل أكثر من مكان من أرض مصر، ولعل القارئ يتساءل من أي مكان بدأ المصري يكتب؟ هل بدأت المحاولة في مكان بعينه ثم أخذت تنتقل بالتدريج إلى أماكن أخرى؟ أم أنها انطلقت من أكثر من مكان في وقت واحد؟

الأرجح والمنطقي أن تكون البداية قد جرت في مكان بعينه، وبعد التوصل إلى بعض الأساسيات أخذت الفكرة تنتقل إلى جهات أخرى لعلها قبلت ريادة المنطقة التي بدأت فيها الكتابة أو أعملت فيها فكرها.

وإذا كانت نقطة الانطلاق قد حدثت في مكان ما، فهل يمكن من خلال ما نعرفه عن تاريخ مصر القديمة وحضارتها وعن الأدوار التي لعبتها بعض المناطق والتي تمثل ثقلاً دينيًّا أو فكريًّا، هل يمكن أن نحدد أين بدأت الكتابة؟! ربما نستطيع أن نشير إلى بعض المناطق في شمال البلاد ووسطها وجنوبها ذات الثقل الفكري على امتداد التاريخ المصري القديم أوفي فترة محددة منه، فهناك مدينة العلم والثقافة والفكر الديني "هليوبوليس" – عين شمس – المطرية والتي كانت تعرف باسم "أون" مركز عبادة الشمس ومنبع نظرية هامة من نظريات تصور المصري القديم عن خلق الكون "نظرية التاسوع" ومحط أنظار الفلاسفة ورجال العلم من بلاد اليونان. وهناك مدينة منف العظيمة أقدم العواصم المصرية (حالياً ميت رهينة – مركز البدرشين – محافظة الجيزة) مركز عبادة الإله بتاح، أحد أهم الآلهة المصرية ومصدر إحدى نظريات خلق الكون. ثم هناك في مصر الوسطى في محافظة المنيا وبالتحديد قرية الأشمونين مركز ملوي. الأشمونين كانت مركزاً لعبادة الإله جحوتي إله الحكمة والمعرفة، ومنها خرجت أيضا إحدى نظريات الخلق "نظرية الثامون" ثم هناك في صعيد مصر وفي منطقة أبيدوس (العرابة المدفونة – مركز البلينا – محافظة سوهاج) حيث المركز الرئيسي لعبادة إله الخير ورب العالم الآخر "أوزير يس"، وفي سوهاج أيضا منطقة ثني (طينة) التي يظن أنها قرية البربا (مركز جرجا – محافظة سوهاج) والتي خرج منها الملك "نعمر" وأسرته لتوحيد قطري مصر. وعلى بعد حوالي 20كم شمال إدفو نجد في شرق وغرب النيل مدينتي "نخب" و"نخن" عاصمتي الجنوب قبل توحيد قطري مصر، ومركز عبادة الإلهة ذات الشأن الكبير في العقائد المصرية، الإلهة "نخبت". وعودة إلى شمال البلاد إلى قرية بوتو (إبطو– تل الفراعين – مركز دسوق – محافظة كفر الشيخ) عاصمة مصر قبل توحيد القطرين ومركز عبادة إحدى الإلهات البارزات في مصر القديمة وهي الإلهة "واجيت

ثم هناك الكثير من المواقع التي شهدت حضارات ما قبل التاريخ والتي مهدت لتاريخ مصر المكتوب مثل الفيوم وحلوان والمعادي وجرزة دير تاسا والبداري ونقادة وغيرها في أي من هذه الأماكن أو ربما في غيرها بدأت الكتابة المصرية؟ سؤال سيظل بلا إجابة محددة إلى أن تخرج لنا أرض مصر الكثير الذي لا يزال في باطنها.

ونعود للعلامات التصويرية التي أدرك المصري بمرور الوقت أنها غير كافية للتعبير عن أفكاره ونشاطاته وتصوراته للعالمين العلوي والسفلي (عالم الأحياء وعالم الموتى)، وعليه فقد أخذ المصري يطور من استخدام العلامة ليتقلص دورها التصويري بالتدريج ويبدأ دورها الصوتي لتعطي كل علامة صوتاً واحداً أو صوتين أو ثلاثة وفي حالات قليلة أربعة.

القيمة الصوتية للعلامات

بعد ما توصل المصري إلى وضع قيمة صوتية Transliterationلكل علامة كان عليه أن يصنف العلامات إلى علامات تعطي القيمة الصوتية لحرف واحد والتي عرفت تجاوزاً باسم "الأبجدية" وأخرى تعطي القيمة الصوتية لحرفين، وثالثة تعطي القيمة الصوتية لثلاثة حروف وحالات ليست بالكثيرة لأربعة حروف.

ونستطيع أن نتصور مدى الصعاب التي واجهت مجموعة من الرواد المصريين القدماء الذين تصدوا لإنجاز هذا العمل الرائع من حيث التصنيف وتحديد القيمة الصوتية، ومن حيث إمكانية نشر هذا الإنجاز على امتداد الأراضي المصرية كلها لتوحيد وسيلة التفاهم نطقاً وكتابةً، ثم من حيث عدد العلامات التي استغرقت عملية اختيارها وقتاً طويلاً وتطلب جهداً كبيراً حتى يتمكن المصري من تحقيق أفضل صورة ممكنة للتكامل اللغوي والكتابي وليضمن أن ما تم اختياره من علامات سوف يفي بكل متطلباته في حياته الدنيوية و حياته الأخروية. وليس من شك في أن تعدد القيمة الصوتية للعلامات قد أدى إلى أن تكون حصيلة هذه العلامات بالمئات وهو أمر يمثل صعوبة بالغة للراغبين في تعلم اللغة المصرية القديمة إذا ما قورنت بلغات قديمة وحديثة تعتمد في بناء كتابتها على مجموعة محددة من الأحرف التي تعرف بالأبجدية.

ومن العلامات ذات الحرف الواحد على سبيل المثال "طائر العقاب"، الذي يقابل حرف الألف، ومن العلامات ذات القيمة الصوتية لحرفين تلك العلامة التي ترمز إلى البيت(pr)، ومن العلامات ذات الأصوات الثلاثة تلك العلامة التي تصور القلب والقصبة الهوائية(nfr). وقبل أن نتحدث عن اللغة المصرية القديمة من حيث أنواع الخطوط التي كتبت بها والمراحل اللغوية التي مرت بها واتجاهات الكتابة وغيرها نود أن نلقي الضوء على قصة فك رموز اللغة المصرية القديمة.

حجر رشيد واللغة المصرية القديمة

إن الدارس للحضارة المصرية لابد أن يلم بمفتاح فك رموز اللغة المصرية القديمة من خلال حجر رشيد. والحديث عن هذا الأثر الهام يتطلب منا أن نلم بأربعة عناصر هي الحجر والمكان والزمان والإنسان.

أما الحجر فهو من البازلت الأسود، وأما المكان فهو رشيد إحدى مدن محافظة البحيرة، وأما الزمان فهو196ق.م، 1799م. وأما التاريخ الأول فهو تاريخ تسجيل النص على الحجر في عهد الملك بطليموس الخامس، وأما التاريخ الثاني فهو عام الكشف عن هذا الحجر من قبل جنود الحملة الفرنسية أثناء قيامهم بحفر خندق حول قلعة سان جوليان بالقرب من رشيد، وأما الإنسان فهو العالم الفرنسي الشاب شامبليون.

من حسن حظ الحضارة المصرية أن كشف عن حجر رشيد عام 1799م، ذلك الحجر الذي ضم مفاتيح اللغة المصرية القديمة والذي لولاه لظلت الحضارة المصرية غامضة لا ندري من أمرها شيئاً لأننا لا نستطيع أن نقرأ الكتابات التي دونها المصريون القدماء على آثارهم. فقد حصل الشاب الفرنسي شامبليون، كما حصل غيره من الباحثين، على نسخة من الحجر وعكف على دراسته مبدياً اهتماماً شديداً بالخط الهيروغليفي ومعتمداً على خبرته الطويلة في اللغة اليونانية القديمة، وفي اللغات القديمة بوجه عام.

حجر رشيد المحفوظ حالياً في المتحف البريطاني من البازلت الأسود غير منتظم الشكل، ارتفاعه 113سم وعرضه 75سم وسمكه 27.5سم وقد فقدت أجزاء منه في أعلاه وأسفله. ويتضمن الحجر من بين ما يتضمن مرسوماً صدر حوالي عام 196ق.م من قبل الكهنة المجتمعين في مدينة منف (ميت رهينة – مركز البدر شين – محافظة الجيزة) يشكرون فيه الملك بطليموس الخامس لقيامه بوقف الأوقاف على المعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات.

وقد سجل هذا المرسوم بخطوط ثلاثة هي حسب ترتيب كتابتها من أعلى إلى أسفل: الهيروغليفية، والديموطيقية واليونانية، وقد فقد الجزء الأكبر من الخط الهيروغليفي وجزء بسيط من النص اليوناني. لقد أراد الكهنة أن يسجلوا هذا العرفان بالفضل للملك البطلمي بالخط الرسمي وهو الخط الهيروغليفي، وخط الحياة اليومية السائد في هذه الفترة وهو الخط الديموطيقي، ثم بالخط اليوناني وهو الخط الذي تكتب به لغة البطالمة الذين كانوا يحتلون مصر. وكان المكتشفون للحجر قد اقترحوا أن الحجر يتضمن نصًّا واحداً بخطوط ثلاثة مختلفة، واتضح فيما بعد أن اقتراحهم كان صائباً وبعد نقل الحجر إلى القاهرة أمر نابليون بإعداد عدة نسخ منه لتكون في متناول المهتمين في أوروبا بوجه عام وفي فرنسا بوجه خاص بالحضارة المصرية. وكان الحجر قد وصل إلى بريطانيا عام 1802بمقتضى اتفاقية أبرمت بين إنجلترا وفرنسا تسلمت إنجلترا بمقتضاها الحجر وآثارًا أخرى. وبدأ الباحثون بترجمة النص اليوناني، وأبدى الباحثان سلفستر دي ساسي وأكربلاد اهتمامًا خاصًّا بالخط الديموطيقي.

وجاءت أولى الخطوات الهامة في مجال الخط الهيروغليفي على يد العلم الإنجليزي توماس يونج الذي حصل على نسخة من حجر رشيد عام 1814م وافترض أن الخراطيش تحتوي على أسماء ملكية واعتمد على نصوص أخرى مشابهة كالمسلة التي عثر عليها في فيلة عام 1815م والتي تضمنت نصًّا باليونانية وآخر بالهيروغليفية. ورغم كل الجهود السابقة في فك رموز حجر رشيد إلا أن الفضل الأكبر يرجع للعالم الفرنسي "جان فرانسوا شامبليون" (1790-1832).

كان على شامبليون أن تواجهه مجموعة من الافتراضات أولها: هل الخطوط الثلاثة (الهيروغليفية – الديموطيقية – اليونانية) تمثل ثلاثة نصوص مختلفة من حيث المضمون أم أنها تمثل موضوعاً واحداً ولكنه كتب بالخط الرسمي (الهيروغليفي)، وخط الحياة اليومية السائد في هذه الفترة (الديموطيقي) ثم بلغة اليونانيين الذين كانوا يحتلون مصر.

وثانيها: يتعلق ببنية اللغة المصرية، هل تقوم الكتابة على أبجدية أي مجموعة من الحروف كاللغات الحديثة مثلاً؟ أم أنها كتبت بعلامات تراوحت قيمتها الصوتية بين حرف أو حرفين أو ثلاثة أو ربما أكثر.

وثالثها: هل عرفت هذه الكتابة حروف الحركة؟ وهل العلامات تصويرية أم صوتية؟ وما هي الأدوات التي استخدمها المصري لتحديد معنى المفردات؟ وهل استخدمت المخصصات والعلامات التفسيرية ؟..إلخ.

لابد أن هذه الافتراضات والتساؤلات وغيرها كانت تدور في ذهن شامبليون وهو يتعامل مع الحجر، ولابد أنه قد استرعى انتباهه أن هناك أكثر من خط للغة المصرية القديمة، فضلاً عن تساؤلات منها. هل هناك من علاقة خطية بين الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية؟ وهل هناك من علاقة لغوية في مجال القواعد والصرف..إلخ. ثم هذه العلامات الأسطوانية في النص الهيروغليفي والتي تحيط ببعض العلامات الهيروغليفية – والتي عرفناها فيما بعد باسم الخرطوش – ماذا تعني؟


عالم المصريات الفرنسي شامبليون

لقد قرأ شامبليون النص اليوناني وفهم مضمونه وقرأ اسم الملك بطليموس، والواضح أنه سلك منهج الاعتماد على أسماء الأعلام غير القابلة كثيرا للتغير، وتحرك من فرضية أن هذا المرسوم الذي صدر في عهد الملك بطليموس الخامس عام 196قبل الميلاد لابد وأنه قد كتب إلى جانب اليونانية بخطين من خطوط اللغة الوطنية، ولابد أن اسم بطليموس باليونانية سوف يقابل في الخطين الهيروغليفي والديموطيقي، وفي ضوء خبرة شامبليون في الخطوط القديمة ودراسته للقبطية على اعتبار – ما اتضح له فيما بعد – أنها المرحلة الأخيرة من مراحل اللغة المصرية القديمة، وفي ظل إدراكه بأن الحروف الساكنة لأسماء الأعلام لا تتغير مهما تعددت اللغات التي كتبت بها، ففي العربية نجد أن اسماً مثل مجدي لا يمكن للحروف الثلاثة الأولى أن تسقط، وكذلك حسن، وإن خففت بعض الحروف أو انقلبت أو أبدلت، إلا أن الصعوبة سوف تتمثل في حروف الحركة التي تحدد نطق السواكن بالفتحة أو بالضمة أو بالكسرة. ولخلو اللغة المصرية القديمة من حروف الحركة يجيء الاختلاف في نطق السواكن، إلا أن القبطية التي ظهرت فيها حروف الحركة حسمت الأمر إلى حد كبير.

تضمن حجر رشيد "خرطوشاً" واحداً تكرر ست مرات ضم اسم الملك بطليموس وهو الاسم الذي ورد على مسلة "فيلة" بالإضافة إلى اسم كليوباترا، سجل شامبليون العلامات الواردة في خرطوش بطليموس ورقمها وفعل نفس الشيء بالنسبة لخرطوش كليوباترا الوارد على مسلة فيلة نظراً لاشتراك الاسمين في القيمة الصوتية لبعض العلامات كالباء والتاء واللام.

وسجل نفس الاسمين باليونانية ورقم كل حرف منهما، وقابل العلامة الأولى من اسم بطليموس بالهيروغليفية وما يقابلها في اسمه باليونانية في إطار المنهج الذي أشرت إليه من قبل، والذي مؤداه أن الثوابت في أسماء الأعلام لا تتغير، وأمكن له أن يتعرف على القيمة الصوتية لبعض العلامات الهيروغليفية اعتمادًا على قيمتها الصوتية في اليونانية. وبمزيد من الدراسات المقارنة أمكن "شامبليون" أن يتعرف على القيمة الصوتية لكثير من العلامات، وفي عام 1822 أعلن شامبليون على العالم أنه تمكن من فك رموز اللغة المصرية القديمة، وأن بنية الكلمة في اللغة المصرية لا تقوم على أبجدية وإنما تقوم على علامات تعطي القيمة الصوتية لحرف واحد وأخرى لاثنين وثالثة لثلاثة، وأكد استخدام المخصصات في نهاية المفردات لتحديد معنى الكلمة.

وهكذا وضع "شامبليون" اللبنات الأولى في صرح اللغة المصرية وجاء من بعده المئات من الباحثين الذين أسهموا في استكمال بناء هذا الصرح الشامخ. وبمعرفة اللغة المصرية القديمة بدأ الغموض ينجلي عن الحضارة المصرية وأخذ علم المصريات يشق طريقه بقوة بين العلوم الأخرى.

خطوط اللغة المصرية القديمة

كتبت اللغة المصرية القديمة بخطوط أربعة هي: الهيروغليفية، والهيراطيقية، والديموطيقية، والقبطية، وهي خطوط لم تظهر كلها في وقت واحد وإنما جاءت في إطار تتابع زمني يعبر عن الامتداد الزمني الطويل الذي عاشته اللغة المصرية القديمة ويعبر في نفس الوقت عن النضج الفكري للإنسان المصري القديم والذي أدرك أن متطلبات الحياة قد تتطلب بين الحين والآخر أن تكون بينها وبين الأداة المعبرة عن اللغة، وهي الكتابة، تناسق ولأن الخط الهيروغليفي – خط العلامات الكاملة – هو أقدم الخطوط المصرية وأطولها عمراً وأكثرها وضوحًا وجمالاً، فقد لجأ المصري في بعض المراحل الزمنية إلى تبسيطه وتمثل ذلك في الخط الهيراطيقي، ثم لجأ إلى تبسيط آخر في مرحلة تالية، وتمثل ذلك في الخط الديموطيقى، الأمر الذي يعني أن هناك علاقة خطية واضحة بين الخطوط الثلاثة. أما الخط الرابع من خطوط اللغة المصرية القديمة وهو الخط القبطي فقد كتب بالأبجدية اليونانية مضافاً إليها سبععلامات من الكتابة المصرية القديمة في شكلها الديموطيقيي لم يتوفر نطقها في العلامات اليونانية والتي سيرد ذكرها فيما بعد.

علامات من الكتابة المصرية القديمة في شكلها الديموطيقيي لم يتوفر نطقها في العلامات اليونانية والتي سيرد ذكرها فيما بعد.

ولعله من المناسب أن نصحح خطئاً شائعاً فيما يتعلق بمسمى اللغة المصرية القديمة، فالشائع أن يشار إليها باللغة الهيروغليفية، فالهيروغليفية خط وليست لغة، ويمكن مقارنة ذلك باللغة العربية، فهي لغة واحدة كتبت بعدة خطوط عدة، منها النسخ والرقعة والثلث والكوفي والديواني..إلخ. ولأنه لا يمكن أن نقول اللغة النسخ أو اللغة الكوفي، وعليه فإنه لا يمكن أن نشير إلى خطوط اللغة المصرية القديمة على أنها لغات، فهي لغة مصرية واحدة عبر عنها المصري كتابة بخطوط أربعة.

الخط الهيروغليفي: Hieroglyphic

اشتقت كلمة "هيروغليفي" من الكلمتين اليونانيتين "هيروس" Hierosو"جلوفوس" Glophos وتعنيان "الكتابة المقدسة" إشارة إلى أنها كانت تكتب على جدران الأماكن المقدسة كالمعابد والمقابر و"الكتابة المنقوشة" لأنها كانت تنفذ بأسلوب النقش البارز أو الغائر على جدران الآثار الثابتة (المباني) وعلى الآثار المنقولة (التماثيل واللوحات..إلخ).

كيف انتقل المصرى القديم من خط إلى خط، ولماذا؟

وقبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى، أتصور أن القارئ سوف يتساءل: لماذا كل هذه الخطوط للغة واحدة، وكيف كانت تتم عملية الانتقال من خط لآخر. ويمكن القول فى هذا الصدد بأن الفترة الزمنية الطويلة التى عاشتها اللغة المصرية القديمة أدت إلى ظهور مراحل لغوية سوف نتحدث عنها فيما بعد، كما أدت أيضاً إلى ظهور مراحل خطية تتناسب مع ظروف العصر ومع متطلبات المراحل اللغوية فى بعض الأحيان.

فالخط الهيروغليفى هو الصورة الكاملة للعلامة، وهو الخط الأكثر وضوحاً، والذى يخرج فى إطار تحكمه قواعد خطية . هذا الخط الذى كان يستخدم - أكثر ما يستخدم - على الأحجار التى تطلبت خبراء فى الخط المنقوش وفى استخدام الآلات الحادة كالأزاميل. ولنا أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث فى حالة حدوث خطأ، ولابد وأنه فى أغلب الأحوال كان الحجر يستبدل بحجر آخر، ليبدأ الكاتب من جديد، ويضيع الوقت والجهد والمال، وفى كل الأحوال كان يمكن إصلاح الخطأ ربما بتغطيته بطبقة جصية، ثم يكتب فوقها من جديد، وقد تسقط هذه الطبقة بعد فترة من الزمن. وإلى جانب ذلك فلنا أن نتصور صعوبة نقل الأحجار التى تدون عليها النصوص من مكان لآخر.

ومن هنا أدرك المصرى أنه لابد من البحث عن مادة أخرى أكثر سهولة للكتابة عليها، وعن خط أبسط من الخط الهيروغليفي. وعليه فقد ظهر الخط الهيراطيقى الذى كان من نتائج جلسات نقاش طويلة بين المتعلمين من أبناء مصر الذين تصدوا لهذا الأمر، أمر العلامات الهيروغليفية. ولابد أنهم اتفقوا على ضوابط للتبسيط، فمثلاً حتى لا تفقد العلامة (n vvvv ) مدلولها الشكلى فى اللغة المصرية القديمة، لابد أنه كانت هناك محاولات كثيرة تتعلق بتخفيض عدد الوحدات المكونة للعلامة ( vvvv) التى تمثل موجة مياه، لتكون ثلاثاً أو أربعاً بدلاً من ست، أو تبدأ العلامة أو تنتهى بما يشير إلى الموجة، مع إلغاء الوحدات الوسطى.

ولعلهم استقروا فى النهاية على أن تأتى الموجة فى خط واحد مسطح يقلل من حركة الكلمة ومن الجهد والوقت، وهكذا أصبحت العلامة تكتب هكذا كخط أفقى، مع مراعاة وجود بقايا الحبر فى هيئة زائدة سفلية فى نهاية العلامة. ولم يكن الجهد كله فى الاتفاق على تبسيط العلامة، وإنما كان هناك جهد آخر لا يقل أهمية؛ وأقصد كيفية توصيل هذا التبسيط إلى كل مكان على أرض مصر حيث يوجد البشر، وإلا لكتبت كل مجموعة بطريقتها، وانعدم أمر شيوع شكل الخط، ولابد أن هذا الأمر قد استغرق وقتاً طويلاً.

ورغم أن المصريين القدماء فى كل مكان على أرض مصر قد التزموا بأساسيات التبسيط، إلا أن هناك بعض العوامل التى فرضت بصماتها على هذه الأساسيات، وهى الزمان والمكان ويد الإنسان، وأداة ومادة الكتابة . ولنا أن نتصور أن وثيقة كتبت فى "منف" فى القرن 20 ق.م. مثلاً لابد أن يختلف خطها فى بعض الخصائص غير الأساسية عن وثيقة كتبت فى "طيبة" فى القرن 15 قبل الميلاد، ناهيك عن مهارة الكاتب من عدمه، ونوع أداة ومادة الكتابة.

والسؤال الذى يطرح نفسه هو متى بدأ المصرى مرحلة تبسيط الخط ؟ أو بمعنى آخر متى توصل إلى الخط الهيراطيقى ؟ لابد أن هذا الأمر قد حدث بعد استقرار الخط الهيروغليفى فى المرحلة المبكرة من تاريخ مصر المكتوب، لأن الخط الهيروغليفى هو الأصل الذى تم تبسيطه. وتشير الدراسات الخطية إلى ظهور العلامات المبسطة منذ الأسرة الأولى؛ وإن لم نعثر على نص هيراطيقى مكتوب على ورق البردى قبل الأسرة الخامسة، حيث عُثر على قطع صغيرة من البردى مسجل عليها نص بالخط الهيراطيقى فى المعبد الجنائزى للملك "ساحورع" فى "أبو صير" جنوب الجيزة (بعض هذه القطع محفوظة فى المتحف المصرى والأخرى فى متاحف أجنبية).

ومن حسن حظ مصر أن توصل الإنسان المصرى القديم إلى اختراع هائل ترك بصمات واضحة ليس فقط على الحضارة المصرية ولكن أيضاً على بعض حضارات العالم القديم، ألا وهو البردى كمادة كتابة أساسية بالنسبة للخط الهيراطيقى وغيره من الخطوط. ولابد أن المصرى قد توصل إلى هذا الاختراع منذ عصر الأسرة الأولى على أقل تقدير، حيث عثر على بعض قطع صغيرة من ورق البردى خالية من الكتابة فى مقبرة "حم كا" فى سقارة (عاش فى عهد الملك "دن" أحد ملوك الأسرة الأولى)، وهى محفوظة فى المتحف المصرى ضمن مقتنيات هذا الشخص. وهكذا نجح المصرى فى تحقيق إنجازين هامين، هما تبسيط الكتابة، واختراع مادة صالحة لهذه الكتابة المبسطة، سهلة الاستعمال، خفيفة الوزن، توفر الجهد والوقت، وهى البردى.

وبمرور الوقت، وللأسباب التى ذكرناها آنفاً، ظهرت مع بداية الأسرة السادسة والعشرين مرحلة خطية ثالثة تمثلت فى الخط الديموطيقى الذى هو أكثر اختصاراً من الخط الهيراطيقى؛ وتخلى عن الكثير من الضوابط الخطية، وأصبح أقل وضوحاً وأكثر تشابكاً من الخط الهيراطيقى، ومن هنا تبدو صعوبة الكتابة الديموطيقية، وبالتالى قلة عدد المتخصصين فيها. ولقد ازدهر هذا الخط فى العصرين البطلمى والرومانى، وكتب أكثر ما كتب على البردى والأوستراكا. وإذا كانت النصوص الهيراطيقية هى نصوص دينية فى معظمها، فإن النصوص الديموطيقية هى أكثر النصوص إبرازاً للحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعب المصرى. ثم تظهر القبطية مع وجود البطالمة فى مصر. ولأنها كتبت بحروف يونانية، فليس هناك من علاقة خطية بينها وبين الخطوط السابقة، ولكنها تمثل - على أية حال - استمراراً لغوياً ونحوياً وصوتياً، وقد سجل المصريون بها الكثير من النصوص التى ألقت الضوء على حضارة مصر القديمة فى المرحلة المتأخرة من تاريخها.

عصور اللغة المصرية القديمة

ينقسم التاريخ المصرى القديم إلى ثلاثين أسرة وهو تقسيم وضعه المؤرخ المصرى القديم "مانيثون" الذى كتب تاريخ مصر باليونانية بتكليف من الملك البطلمى "بطلميوس الثانى" حوالى عام 280 ق.م.، ووضع المؤرخون المحدثون هذه الأسرات فى إطار عصور تاريخية كعصور الدولة القديمة والوسطى والحديثة، إلخ. وإلى جانب العصور التاريخية، هناك فيما يتعلق باللغة المصرية القديمة عصور لغوية، فقد كان من نتائج هذا الامتداد الزمنى الطويل للغة المصرية القديمة حدوث تغييرات فى النحو والصرف وقواعد الهجاء، وفى المخصصات وفى القيم الصوتية. ومن خلال الدراسات التى قام بها المتخصصون فى اللغة المصرية القديمة أمكن تقسيم اللغة إلى عصور، يتميز كل عصر منها بخصائص لغوية معينة، وهذه العصور هى :

اللغة فى العصر القديم : Old Egyptian

وهى مرحلة وضع اللبنات الأولى فى بناء اللغة المصرية، وبدأت منذ الأسرة الأولى واستمرت حتى منتصف الأسرة الثامنة: وتقابل هذه المرحلة من الناحية التاريخية العصر العتيق (الأسرتان الأولى والثانية)، وعصر الدولة القديمة، والأسرتين السابعة والثامنة من عصر الانتقال الأول. وتبدو نصوص هذه الفترة اللغوية واضحة فى آثار الدولة القديمة وفى نصوص الأهرام.

اللغة فى العصر الوسيط : Middle Egyptian

ظهرت خصائص هذه المرحلة اللغوية فى الفترة من منتصف الأسرة الثامنة، واستمرت حتى منتصف الأسرة الثامنة عشرة، وتمثل هذه المرحلة مرحلة النضج الكامل بالنسبة للغة المصرية القديمة. وقد غطت تاريخياً بعض الأسرات من عصر الانتقال الأول، وعصر الدولة الوسطى، وعصر الانتقال الثانى، وبداية الدولة الحديثة.

اللغة فى العصر المتأخر (الحديث): Late Egyptian , New Egyptian

تبدو هذه المرحلة اللغوية واضحة فى نصوص الأسرات منذ النصف الثانى من الأسرة الثامنة عشرة وحتى الأسرة الخامسة والعشرين، أى تشمل تاريخياً الدولة الحديثة والعصر المتأخر.

مرحلة الديموطيقى : Demoti

وهى مرحلة بدأت منذ القرن الثامن قبل الميلاد، واستمرت حتى القرن الخامس الميلادى، وهى مرحلة لغوية وإن كتبت بخط مختلف هو الخط الديموطيقى.

مرحلة القبطية : Coptic

وهى مرحلة لغوية بدأت منذ القرن الثالث الميلادى تقريباً، وانتهت رسمياً وليس فعلياً بدخول الإسلام مصر عام 641 م، حيث بدأت تحل محلها بالتدريج اللغة العربية، وإن استمرتا معاً لفترة طويلة.

اتجاه الكتابة

كتبت اللغة المصرية القديمة في خطها الهيروغليفي أفقيًّا ورأسيًّا من اليمين إلى اليسار فيما عدا الحالات التي تحتم تغيير اتجاه الكتابة لتتواءم مع اتجاه منظر معين أو نص معين على عنصر معماري ذي طبيعة خاصة، كما أن التنسيق والشكل الجمالي تطلب في بعض الأحيان أن تكتب بعض النصوص من اليسار إلى اليمين. وأما الهيراطيقية والديموطيقية فكانت تكتب دائما من اليمين إلى اليسار. ويمكن تحديد اتجاه النص بالنسبة للكتابة الهيروغليفية حسب اتجاه العلامات ذات الوجه والظهر مثل الإنسان والحيوانات والطيور والزواحف. فإذا كانت العلامة متجهة نحو اليسار هكذا وأما عن تطور الكتابة في مصر وهو التطور الذي يتضح من خلال ظهور خطوط أربعة للغة المصرية القديمة ذكرت من قبل فإنه يمكن حصر التطور من خط إلى آخر وبالتالي العلاقة بين خطوط هذه اللغة، يمكن حصره في إطار خطوط ثلاثة هي الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية. نظراً لوجود علاقة خطية واضحة في معظم الحالات وهي العلاقة التي لا وجود لها بالنسبة للخط الرابع وهو الخط القبطي الذي كتب بحروف يونانية.

ولقد فرضت عدة عوامل حدوث تطور لخطوط اللغة المصرية القديمة من بينها طبيعة مادة الكتابة وأداة الكتابة والموضوع وتعدد الأنشطة البشرية وخصوصاً الاقتصادية والإدارية منها. فالكتابة على الحجر والمنشآت الحجرية بوجه عام تتطلب أن تكتب العلامات بصورتها الكاملة وأن تنقش نقشا غائرا أو بارزاً. أما عن الكتابة على ورق البردي وكسرات الفخار والحجارة والآثار الصخرية بوجه عام. فإنها تتطلب خطًّا هيروغليفيًّا مبسطاً تطور فيما بعد إلى خط أكثر تبسيطاً يعرف بالخط الهيراطيقي وقد اضطر المصري إلى تبسيط الخط الهيروغليفي تمشياً مع طبيعة مادة الكتابة (ورق البردي) ومع تزايد الأنشطة اليومية التي تطلبت خطًّا أسرع لا يتطلب مساحة كبيرة ولا جهدًا كبيرًا ولا مقابًلا ماديًّا مرتفعًا. ونظراً لقربه في بداياته الأولى من الخط الهيروغليفي المختصر فقد سمي باسم (الخط الهيراطيقي غير التقليدي) وقد راعى المصري قواعد وضوابط معينة عند التبسيط محاولاً ألا يخل بالعناصر الأساسية المكونة للعلامة ولأن الخط الهيراطيقي هو خط بلا ضوابط – كالفارق بين الخطين النسخ والرقعة في اللغة العربية (الأول يكتب بضوابط والثاني يخلو منها) فإننا لابد أن نضع في الاعتبار الاختلاف الواضح في شكل العلامة الواحدة فعلامة (البومة) كتبت بالهيراطيقية بصور مختلفة، ويجيء هذا الاختلاف ناتجاً عن عوامل كثيرة منها مادة وأداة الكتابة ومهارة الكاتب من عدمه وعوامل الزمان والمكان وطبيعة الموضوع أحياناً، وقد نجد صعوبة في بعض الحالات في تتبع التطور أو التبسيط الذي جرى للعلامة من الخط الهيروغليفي إلى الخط الهيراطيقي ومرجع ذلك للأسباب التي ذكرتها والتي تتحرك كما قلت بلا ضوابط.

وقد لا نستطيع أن نتفهم في بعض الأحيان لماذا لجأ المصري عند تبسيط بعض الطيور إلى التغاضي عن الرأس وهي جزء مميز للطائر، كما لا نفهم في بعض الأحيان لماذا لم يحافظ عند التبسيط على نسب العلامة كما هي في الهيروغليفية أي النسبة بين مكونات الجسم. وفي بعض الحالات قد لا نستطيع تتبع التطور أو التبسيط لتبدو العلامة الهيراطيقية على غير صلة بالعلامة الهيروغليفية التي يفترض أنها بسطت عنها. ويمكن القول بوجه عام أن معظم العلامات الهيراطيقية يمكن تتبع تطورها من الهيروغليفية وأن أقلها قد نجد صعوبة في ذلك لأسباب مرتبطة فيما نعتقد بمهارة الكاتب وحالته الجسدية والنفسية عند كتابة النص ومدى اهتمامه بقلمه أو فرشاه ومادة الكتابة. وإذا كان أقدم نص هيراطيقي عثر عليه في مصر يرجع لعصر الأسرة الرابعة (2597-2471 ق.م) علاوة على نص من عهد الملك "ساحورع" حيث عثر في معبده الجنائزي على مجموعة من قطع البردي عليها كتابه هيراطيقية موزعة على متحف القاهرة وبعض المتاحف الأجنبية. إلا أن ذلك لا يعني أن الخط الهيراطيقي لم يلازم الخط الهيروغليفي منذ نشأته، لكننا لم نملك الدليل على ذلك حتى الآن. ومع نهاية الأسرة الخامسة والعشرين (656ق.م) وبداية الأسرة 26 ظهر خط آخر بدا أكثر تبسيطا من الخط الهيراطيقي وهو الخط الديموطيقي وظل يستخدم في مصر حتى نهاية العصر الروماني وهو خط في بدايته قريب الشبه بالخط الهيراطيقي ولهذا سمي في مراحله المبكرة بالهيراطيقي غير التقليدي ثم أخذ يتبلور ويتخذ شكله المستقل كخط ديموطيقي مع بداية العصر البطلمي في القرن الرابع قبل الميلاد وطوال هذا العصر والعصر الروماني. والدارس للخط الديموطيقي قد يتصور لأول وهلة أن هذا الخط يمثل مرحلة التطور الثانية بعد الخط الهيراطيقي، وقد يتصور كذلك أنه يمثل مزيداً من التبسيط للخط الهيراطيقي يتناسب مع تنوع الأنشطة الدنيوية والدينية وازديادها قياسا بالعصور السابقة.

وقد يبدو هذا الأمر منطقي إلى حد كبير ولكن الدراسة المتأنية لم تؤكد هذا التصور بشكل مطلق، وقد نخرج بمجموعة من التساؤلات وهي:

هل الخط الديموطيقي يمثل تبسيطاً لخط جرى تبسيطه عن الخط المبسط من الخط الهيروغليفي وهو الخط الهيراطيقي أم أنه والخط الهيراطيقي قد جرى تبسيطهما مباشرة عن الخط الهيروغليفي وفي حالات أخرى عن الخط الهيراطيقي، أم أنه يمثل خطًّا له خصائصه التي يختلف بها عن خصائص الخطين السابقين الهيروغليفي والهيراطيقي. ومن حيث الشكل فإن الخط الديموطيقي يبدو أكثر تبسيطاً عن الخط الهيراطيقي ووصل إلى درجة الاختزال في بعض الأحيان متبنياً التخلي عن المزيد من مكونات العلامة التي احتفظ بها الخط الهيراطيقي، الأمر الذي يزيد من صعوبة قراءة الخط الديموطيقي، بالإضافة إلى تشابك العلامات والمفردات والسرعة الواضحة في كتابتها الأمر الناتج عن صغر حجم مادة الكتابة (كسرات الفخار مثلاً) وعن صغر حجم الموضوعات. ودراسة تطور العلامات الديموطيقية يتطلب مقارنتها بالمراحل الخطية السابقة في محاولة لتفهم فلسفة المصري في التبسيط والمنهج الذي اتبعه في هذا الميدان.

لقد قطعت الدراسات الخطية في مجال خطوط اللغة المصرية القديمة شوطا ًطيباً، لكن الأمر لا يزال يتطلب المزيد من الجهد والتحليل للتعرف على الكثير من خصائص رحلة تطور الكتابة في مصر من الهيروغليفية إلى الديموطيقية

الأعداد

جهود العلماء العرب فى فك الرموز الكتابة المصرية القديمة

جرى العرف ونحن نتحدث عن الجهود التى بذلها العلماء لفك رموز الكتابة المصرية القديمة أن نشير إلى جهود "توماس يونج" و"أكر بلاد" و"شامبليون".

ورغم أن هؤلاء الباحثين قد توصلوا إلى فك رموز الكتابة المصرية القديمة، وخصوصاً "جان فرانسوا شامبليون، وكان ذلك فى عام 1822م، إلا أن بعض الدراسات على امتداد فترات زمنية متباعدة (وكان آخرها وأهمها دراسة الزميل الدكتور عكاشة الدالى التى نال بها درجة الدكتوراه) أثبتت أن العلماء المسلمين العرب قد بذلوا جهوداً مضنية - وإن لم تنجح نجاحا كبيراً - للتعرف على القيمة الصوتية والمعانى لبعض المفرادات المصرية القديمة.

وكان من الضرورى أن أشير إلى النتائج التى توصل إليها هؤلاء العلماء العرب من خلال الدراسة التى أجراها الزميل الدكتور عكاشة الدالى:

Egyptology: The Missing Millennium, London, 2005.

لقد ثبت مدى اهتمام بعض العلماء المسلمين العرب بالكتابة المصرية القديمة من خلال المخطوطات التى تركوها لنا، والتى تكشف عن طبيعة المحاولات التى قاموا بها، وهى محاولات كشف عنها بعض المستشرقين الأوربيين، مثل المستشرق النمساوى "جوزيف همرفون برجسترال" فى عام 1806 بمدينة لندن، حيث قام بنشر النص العربى مع ترجمة بالإنجليزية لكتاب "ابن وحشية": "شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام"، والذى يؤرخ للقرن التاسع الميلادى.وفى عام 1909م نشر "بلوشيه" مجموعة من المقالات حول مذهب العارفين بالله، والتى أشار فيها إلى نجاح بعض العلماء العرب فى التعرف على بعض العلامات الهيروغليفية.

لقد أبدى بعض العلماء فى العصر الإسلامى اهتماماً كبيراً بالخط الهيروغليفي، وخاصة علماء الكيمياء الذين تصوروا أن اللغة المصرية القديمة تحمل الكثير من أسرار الكيمياء، وخصوصاً تحويل المعادن العادية إلى معادن نفيسة. وأبدى نفس الاهتمام بعض علماء الصوفية اعتقاداً منهم فى أن غموض العلامات المصرية القديمة يتطلب جهداً للكشف عنه.

لقد كان العلماء العرب على دراية بالصور المختلفة للعلامات المصرية القديمة، فالعلامة "إبن الفاتك" (ق. 10-11م) يشير إلى معرفة "بيثاجورس" بخطوط اللغة المصرية القديمة، خط العامة (الديموطيقى)، وخط الكهنة (الهيراطيقى)، وخط الملوك (الهيروغليفى).

وإذا أردنا أن نلقى الضوء فى إيجاز على بعض العلماء العرب الذين حاولوا فك رموز الكتابة المصرية القديمة، فيأتى على رأسهم عالم الكيمياء "جابر ابن حيان" (ق. 7-8م) الذي ضمن كتابيه "كشف الرموز" و"الحاصل" محاولات لقراءة بعض رموز الكتابة الهيروغليفية.

ثم هناك العالم المصري "أيوب ابن مسلمة" الذى صحب الخليفة "العباس المأمون" خلال زيارته لمصر، وورد أنه تمكن من قراءة بعض النقوش المصرية القديمة. ومن أبرز العلماء العرب "ذو النون المصرى" (ق.9م) الذى ولد بأخميم (إحدى مدن محافظة سوهاج)، وذكر أنه كان يجيد قراءة النصوص التى سجلت على جدران المعابد. ومن أهم ما ترك من مؤلفات كتابه "حل الرموز"،"وبرأ الأرقام فى كشف أصول اللغات والأقلام"، والذى تضمن دراسات للكثير من الخطوط القديمة من بينها الهيروغليفية. وقد ورد فى بعض صفحات هذا العمل بعض العلامات الهيروغليفية مصحوبة بالقيمة الصوتية كما تصورها.

ولعل أهم العلماء العرب فى هذا الميدان هو "ابن وحشيه النبطى" من أهل العراق ( ق. 10م) من المشتغلين بالكيمياء، وصاحب دراسة "شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام" ، والتى نشر نصها العربي مع ترجمة ا نجليزية المستشرق النمساوى "جوزيف هم ر فون"، والتى ظهرت فى لندن عام 1806 م، أى قبل أن يعلن العالم الفرنسي "شامبليون" عن اكتشاف الكتابة الهيروغليفية عام 1822 م.

ولعل أهم ما توصل إليه "ابن وحشيه" هو معرفته للقيمة الصوتية لعدد من العلامات الهيروغليفية، وتوصله إلى أن العلامات التى ترد فى نهاية الكلمات هى بمثابة مخصصات تساعد على تحديد معانى المفرادات، وقد ثبت صحة بعضها.

ثم هناك أخيراً عالم الكيمياء العراقى "أبو القاسم العراقى المصرى" (ق. 13-14م) صاحب كتاب "الأقاليم السبعة"، والذى تضمن نسخاً لبعض النصوص المصرية القديمة. كما تضمن جدولاً للحروف البرباوية (الهيروغليفية) جاءت قراءته لبعضها صحيحة.

وأبدى "المقريزى" اهتماماً كبيراً بالخط الهيروغليفى، وأورد ترجمة لبعض نصوص مصرية قديمة، وتمكن من وصف الأثر الوارد عليه النص وصف علمياً دقيقاً لا يقل كثيراً عن القواعد المتبعة حاليا فى نشر مثل هذه النصوص.

لقد آن الأوان إذاً لكى نلقى الضوء على جهود علماء مسلمين عرب أجلاء حاولوا فى إطار ظروف زمنهم ومنذ قرون طويلة مضت أن يبرزوا ليس فقط مجرد الاهتمام بالكتابة المصرية القديمة من خلال لفت الأنظار إليها وإلى الآثار التى سجلت عليها، وإنما حاولوا كذلك استنطاقها ليتعرفوا على شئ من حضارة الأجداد فى مصر القديمة، فبذلوا الجهد، كل الجهد مدوَّنين للنقوش، ومحاولين معرفة دلالاتها الصوتية، بل ومعانيها ودورها الوظيفي، وفتحوا بذلك الباب للمستشرقين من بعدهم لينهلوا من عملهم، وليبدأوا من حيث انتهي العلماء العرب، إلى أن تكلل جهد "شامبيلون" بالنجاح، مستكملا، مسيرة العلماء العرب فى هذا الميدان.



0 التعليقات:

Post a Comment